فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أرسل نبيه صالحًا إلى ثمود، فإذا هم فريقان يختصمون، ولم يبين هنا خصومة الفريقين، ولكنه بين ذلك في سورة الأعراف في قوله تعالى: {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الذين استكبروا إِنَّابالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 75- 76] فهذه خصومتهم، وأعظم أنواع الخصومة، الخصومة في الكفر والإيمان.
{قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} [الرعد: 6].
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)}.
قوله: اطيرنا بك: أي تشاءمنا بك، وكان قوم صالح إذا نزل بهم قحط أو بلاء أو مصائب قالوا: ما جاءنا هذا إلا من شؤم صالح، ومن آمن به. والتطير: التشاؤم، وأصل اشتقاقه من التشاؤم بزجر الطير.
وقد بينا كيفية التشاؤم والتيامن بالطير في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] وقوله تعالى: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله} قال بعض أهل العلم: أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، فالشر الذي أصابكم بذنوبكم لا بشؤم صالح، ومن آمن به من قومه.
وقد قدمنا معنى طائر الإنسان في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من تشاؤم الكفار بصالح، ومن معه من المؤمنين جاء مثله موضحًا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في تشاؤم فرعون وقومه بموسى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] وقوله تعالى في تطير كفار قريش، بنبينا صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] والحسنة في الآيتين النعمة كالرزق والخصب، والعافية. والسيئة المصيبة بالجدب والقحط، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات، وكقوله تعالى: {قالوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} [يس: 18- 19] أي بليتكم جاءتكم من ذنوبكم، وكفركم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}، قال بعض العلماء تختبرون وقال بعضهم: تعذبون كقوله: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] وقد قدمنا إن اصل الفتنة في اللغة وضع الذهب في النار ليختبر بالسبك أزائف هو أم خالص؟ وأنها أطلقت في القرآن على أربعة معان:
الأول: إطلاقها على الاحرف بالنار كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] وقوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] اي حرقوهم بنار الاخدود على أحد التفسيرين. وقد اختاره بعض المحققين.
المعنى الثاني: إطلاق الفتنة على الاختبار، وهذا هو أكثرها استعمالًا كقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وقوله تعالى: {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16- 17]. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
الثالث: إطلاق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيئة خاصة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الكفر والضلال كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39] أي حتى لا يبقى شرك، وهذا التفسير الصحيح، دل عليه الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقد دل عليه في قوله بعده في البقرة {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} [البقرة: 193] وفي الأنفال.
{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله} [الأنفال: 39] فإنه يوضح أن معنى: لا تكون فتنة، أي لا يبقى شرك، لأن الدين لا يكون كلمة لله، ما دام في الأرض شرك كما ترى.
وأما السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله» فقد جعل صلى الله عليه وسلم الغاية التي ينتهي إليها قتاله للناس، هي شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واضح في أن معنى: لا تكون فتنة: لا يبقى شرك، فالآية والحديث كلاهما دال على أن الغاية التي ينتهي إليها قتال الكفار هي ألا يبقى في الأرض شرك، إلا أنه تعالى في الآية عبر عن هذا المعنى بقوله: {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَة} وقد عبر صلى الله عليه وسلم بقوله: «حتى يشهدوا ألا إله إلا الله» فالغاية في الآية والحديث واحدة في المعنى. كما ترى.
الرابع: هو إطلاق الفتنة على الحجة في قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] أي لم تكن حجتهم، كما قاله غير واحد. والعلم عند الله تعالى.
{قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)}.
قد دلت هذه الآية الكريمة على أن نبي الله صالحًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام نفعه الله بنصره وليه: أي أوليائه لأنه مضاف إلى معرفة، ووجه نصرتهم له، أن التسعة المذكورين في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 48- 49] أي تخالفوا بالله، لنبيتنه: أي لنباغتنه بياتًا: أي ليلًا فنقتله ونقتل أهله معه {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} أي أوليائه وعصبته {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ولا مهلكه هو، وهذا يدل على أنهم لا يقدرون أن يقتلوه علنًا، لنصرة أوليائه له، وإنكارهم شهود مهلك أهله دليل على خوفهم من أوليائه. والظاهر أن هذه النصرة عصبية نسبية لا تمت إلى الذين بصلة، وأن أولياءه ليسوا مسلمين.
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] الآية. وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وقوله تعالى في هذه الآية: {تقاسموا} التحقيق أنه فعل أمر محكي بالقول. وأجاز الزمخشري، وابن عطية أن يكون ماضيًا في موضع الحال، والأول هو الصواب إن شاء الله، ونسبه أبو حيان للجمهور، وقوله في هذه الآية: وإنا لصادقون، التحقيق فيه أنهم كاذبون في قولهم: وإنا لصادقون كما لا يخفى، وبه تعلم أن ما تكلفه الزمخشري في الكشاف من كونهم صادقين لا وجه له كما نبه عليه أبو حيان، وأوضحه وقرأ عامة السبعة غير حمزة والكسائي لنبيتنه بالنون المضمومة بعد اللام، وفتح الفوقية المثناة التي بعد التحتية المثناة، وقرأ حمزة الكسائي: لتنبيته بالتاء الفوقية المضمومة بعد اللام، وضم التاء الفوقية التي بعد الياء التحتية، وقرأ عامة السبعة أيضًا غير حمزة والكسائي: ثم لنقولن بالنون المفتوحة، موضع التاء، وفتح اللام الثانية، وقرأ حمزة والكسائي لم لتقولن بفتح التاء الفوقية بعد اللام الأولى، وضم اللام الثانية، وقرأ عاصم: مهلك أهله بفتح الميم، والباقون بضمها، وقرأ حفص عن عاصم: مهلك بكسر اللام والباقون بفتحها.
فتحصل أن حفصًا عن عاصم قرأ مهلك بفتح الميم وكسر اللام، وأن أبا بكر أعني شعبة قرأ عن عاصم: مهلك بفتح الميم واللام، وأن غير عاصم قرأ مهلك أهله بضم الميم وفتح اللام، فعلى قراءة من قرأ مهلك بفتح الميم، فهو مصدر ميمي من هلك الثلاثي، ويحتمل أن يكون اسم زمان أو مكان. وعلى قراءة من قرأ مهلك بضم الميم، فهو مصدر ميمي من أهلك الرباعي، ويحتمل أن يكون أيضًا اسم مكان أو زمان.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة ثلاثة أمور:
الأول: أنه دمر جميع قوم صالح، ومن جملتهم تسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وذلك في قوله: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} أي وهم قوم صالح ثمود {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} أي خالية من السكان لهلاك جميع أهلها {بِمَا ظلموا} أي بسبب ظلمهم الذي هو كفرهم وتمردهم وقتلهم ناقة الله التي جعلها آية لهم. وقال بعضهم: خاوية أي ساقطًا أعلاها على أسفلها.
الثاني: أنه جل وعلا جعل إهلاكه قوم صالح آية: أي عبرة يتعظ بها من بعدهم، فيحذر من الكفر، وتكذيب الرسل، لئلا ينزل به من نزل بهم من التدمير. وذلك في قوله: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
الثالث: أنه تعالى أنجى الذين آمنوا وكانوا يتقون من الهلاك والعذاب، وهم نبي الله صالح ومن آمن به من قومه، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} وهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها جل وعلا هنا جاءت موضحة في آيات أخر.
أما إنجاؤه نبيه صالحًا، ومن آمن به وإهلاكه ثمود، فقد أوضحه جل وعلا في مواضع من كتابه كقوله في سورة هود {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ} [هود: 66- 68] وآية هود هذه قد بينت أيضًا التدمير المجمل في آية النمل هذه، فالتدمير المذكور في قوله تعالى: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} بينت آية هود أنه الإهلاك بالصيحة، في قوله تعالى: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67] أي وهم موتى، وأما كونه جعل إهلاكه إياهم آية، فقد أوضحه أيضًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى فيهم: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ العذاب إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} [157- 159] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51] قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو. وابن عامر: إنا دمرناهم بكسر همزة، إنا على الاستئناف، وقرأه الكوفيون وهم: عاصم وحمزة والكسائي: أنا دمرناهم بفتح همزة أنا وفي إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها على قراءة الكوفيين أوجه: منها. أنه بدل من عاقبة مكرهم، ومنها: أنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره هي: أي عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم.
وهذان الوجهان، هما أقرب الأوجه عندي للصواب، ولذا تركنا غيرهما من الأوجه، والضمير في قوله: {مكرهم} وفي قوله: {دمرناهم} راجع إلى التسعة المذكورين، في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] الآية. وقوله: {خَاوِيَةً} حال من بيوتهم، والعامل فيه الإشارة الكامنة في معنى تلك. اهـ.